وقوله (وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ) أي يدخل (الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) أي حتّى يدخل حبل السفينة في ثقب الإبرة ، وهذا مثل يُضرَب في المستحيلات ، والمعنى لا يدخلون الجنّة أبداً ، فالجمل هو حبل السفينة وجمعه جمالات ، وسمّ الخياط هو ثقب الإبرة (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) أي ومثل هذا نجزي المجرمين أيضاً . فالأرواح تصعد إلى السماء فالمؤمنون تفتح لهم أبواب السماء ويدخلون الجنّة والكافرون يبقون في الفضاء معذّبين حول الشمس .
46 – (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ) يعني بين أهل الجنّة وأهل النار حجاب وهو سور يسمّى سور الأعراف ، وذلك قوله تعالى في سورة الحديد {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} ، (وَعَلَى الأَعْرَافِ) أي وعلى ذلك السور (رِجَالٌ) هداة ، وهم الأنبياء والرسل (يَعْرِفُونَ كُلاًّ) من المؤمنين والكافرين (بِسِيمَاهُمْ) أي بعلامات تبدو على وجوههم (وَنَادَوْاْ) الرجال الذين هم على الأعراف نادَوا (أَصْحَابَ الْجَنَّةِ) الذين لم يذهبوا إليها بعد ولكنّهم لم يزالوا في المحشر فقالوا لهم (سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ) وهذه بشارة لهم بأنّهم سلموا من جهنّم وسيدخلون الجنّة عن قريب . ثمّ أخبر سبحانه بأنّ هذا السلام يكون لهم قبل دخول الجنّة فقال (لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ) في دخولها لِما رأوا من علائم الخير والبشارة لهم من الملائكة والسلام من الأنبياء .
47 – (وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ) أي أبصار أهل الجنّة الذين لا يزالون في المحشر (تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الذين هم في النار .
48 – (وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ) أي الأنبياء والهداة الذين هم على السور نادَوا (رِجَالاً) من المشركين والكافرين الذين هم في المحشر (يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ) أنّهم من الكافرين (قَالُواْ) أي قال الهداة للكافرين (مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ) أي لم ينفعكم جمعكم اليوم ولم يدفع عنكم شيئاً من عذاب الله (وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) في دار الدنيا على الأنبياء وعلى المؤمنين .
49 – ثمّ تشير الأنبياء إلى المؤمنين الذين في المحشر مخاطبين بذلك الكافرين قائلين (أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ) عليهم في دار الدنيا وقلتم (لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ) لأنّهم تركوا عبادة الأوثان والأصنام وكفروا بِها فاليوم نقول لهم (ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ) أي لا خوف عليكم من النار ولا تحزنون على فراق الجنّة .
50 – (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ) بعد أن دخلوها (أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ) من الفواكه والأطعمة (قَالُواْ) أي قال رجال الأعراف وهم الأنبياء (إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) .
51 – (الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ) أي نتركهم في النار حتّى ننساهم (كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـذَا) أي كما كذبوا بيوم القيامة وأهملوا أمره حتّى نسوه (وَمَا) أي وكما (كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) يعني كما كانوا لأدلّتنا ومعجزاتِنا ينكرون .
52 – فحينئذٍ يسأل أهل الجنّة الذين هم في المحشر يسألون الأنبياء عن أهل النار الذين هم في المحشر فيقولون هل أرشدتموهم وعلّمتموهم وذكّرتموهم بهذا اليوم كما أرشدتمونا كي يؤمنوا كما آمنّا . فيقولون بلى أرشدناهم وذكّرناهم (وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ) أيضاً من عند الله (فَصَّلْنَاهُ) لهم ، أي قرأناه لهم ، أي قرأناه لهم وبيّنّا لهم أحكامه على التفصيل وكان نهجه (عَلَى عِلْمٍ) من الله وليس نهجه موضوعاً على جهل فهو (هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ولكنّهم كذّبوا واستكبروا واغترّوا بكثرة أموالهم وعددهم .
53 – ثمّ استنكر الله تعالى امتناع المشركين عن الإيمان بكتابه المجيد مع كثرة الأدلّة والبراهين على وحدانيّته فقال (هَلْ يَنظُرُونَ) أي هل ينتظرون (إِلاَّ) أن يأتيهم (تَأْوِيلَهُ) أي تأويل وتفسير الآيات المتشابهة التي لم يحيطوا بِها علماً والتي كذّبوا بِها ، والشاهد على ذلك قوله تعالى في سورة يونس {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} . يعني كذّبوا بآيات القرآن التي لم يحيطوا علماً بمعناها ولم يفهموا مغزاها فكذّبوا واستهزؤوا بِها . وذلك قولهم كيف ينبت في جهنّم شجر والنار تأكل الأخضر واليابس ، وقولهم كيف يكون الأكل بالبطن دون الفم ، إلى غير ذلك من التكذيب والاستهزاء بالقرآن .
ثمّ بيّن سبحانه بأنّ الآيات المتشابهة لا يأتي تأويلها إلاّ بعد حين من الزمن ، وذلك قوله تعالى في سورة ص {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} وإنّكم أيّها الكافرون به لا تعيشون إلى ذلك اليوم لكي تؤمنوا به حين تفهمون تأويله بل ستموتون عن قريب وتنتقلون إلى العالم الأثيري وحينذاك لا ينفعكم الإيمان إذا آمنتم فما يمنعكم من الإيمان به اليوم ما دمتم أحياء في دار الدنيا وما دامت لكم فرصة للإيمان .
ثمّ بيّن سبحانه بأنّهم إذا سمعوا تأويل الآيات المتشابهة عندما يأتي بِها المهدي يندمون على ما فرط منهم ويتمنّون لو يجدون شفيعاً يشفع لهم عند الله أو يعودون إلى دارالدنيا فيصدّقوا بالقرآن ويعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئاً ولكن لا فائدة لأمانيّهم حيث فاتتهم الفرصة فقال (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) أي تأويل القرآن وتفسيره (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ) أي الذين كذّبوا به وتركوه حتّى نسوه (قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) ولكن كذّبناهم وسخرنا منهم والآن عرفنا أنّهم على حقّ (فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا) عند الله (أَوْ نُرَدُّ) إلى الدنيا (فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) يكون هذا القول منهم وهم نفوس أثيرية (قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ) لأنّهم أوقعوها في العذاب (وَضَلَّ عَنْهُم) أي ضاع وذهب عنهم (مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ) أي ما كانوا يكذبون به على الله من قولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله .
100 – (أَوَلَمْ يَهْدِ) القرآن ، يعني أولم نبيّن في القرآن من الأدلّة والبراهين ما يكفي لهداية قومك يا محمّد فلماذا لا يؤمنون وقد فصّلناه لهم (لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ) في المستقبل 1 وهم قومك يا محمّد (مِن بَعْدِ أَهْلِهَا) أي من بعد زوال أهلها عن الحكم ، لماذا يستعجلونك بالعذاب (أَن) قالوا اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطِر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذابٍ أليم (لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم) بالعذاب كما سألوا (بِذُنُوبِهِمْ) أي بسبب ذنوبهم (وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ) ولكن لا نشاء إصابتهم بالعذاب بل نريد هدايتهم كي يرثوا الأرض من بعد أهلها .
----------------------------------------------
1 وهذا هو مراد قوله تعالى في سورة الأنبياء {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} –
101 – (تِلْكَ الْقُرَى) التي أهلكناها (نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا) وهم الذين سبق ذكرهم (وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ) أي بالمعجزات وهم قوم شعيب وقوم لوط وصالح وهود ونوح (فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ) يعني بِما كذّب به أسلافهم (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ) للنعم ، يعني الناكرين لنعم الله .
102– (وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ) يوفون به ، يعني أكثرهم خانوا العهد الذي عاهدوا به أنبياءهم بأن لا يشركوا بالله شيئاً وأن يتجنّبوا المعاصي ويعملوا الصالحات ولكنّهم كانوا يخونون العهد بعد موت نبيّهم فيرتدّون عن دينه ويعبدون الأصنام (وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) و"إن" من قوله (وَإِن وَجَدْنَا) للتأكيد وكذلك اللام من قوله (لَفَاسِقِينَ) والمعنى ولكن وجدنا أكثرهم فاسقين .
146 – (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ) أذى فرعون وقومه (الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ) بغير الحقّ ، يعني في أرض مصر ، وآياته هي التوراة والعصا وموسى وهارون ، وذلك لَمّا سار بنو إسرائيل من مصر خافوا من فرعون أن يلحقهم ويضربهم فقالوا {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} أي سيلحق بنا فرعون ويقتلنا ، فطمأنهم الله تعالى وقال (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) أي سأصرفهم عنكم فلا تخافوهم (وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ) من المعجزات التي جاء بِها موسى وعددها تسع آيات (لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ) أي طريق الحقّ (لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) لدينهم (وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ) أي طريق الكفر والضلال (يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) أي يتّخذوه ديناً ومنهجاً (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ) .
آراء المفسّرين
لم يفهم المفسّرون معنى هذه الآية مع بساطتها ووضوح ألفاظها فأخذوا في تفسيرها بعكس ما هي عليه فظنّوا أنّ الله تعالى يريد بذلك صرف الكتابية عن أذهان هؤلاء المتكبّرين لئلاّ يؤمنوا وبذلك يستحقّون العذاب ، ولكن الله تعالى لم يقل : سأصرف آياتي عن الذين يتكبّرون في الأرض ، بل قال تعالى (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ) وإليك ما جاء في تفسير الجلالين :" { سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَٰتِي } دلائل قدرتي من المصنوعات وغيرها { ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } بأن أخذلهم فلا يتفكرون فيها"
وجاء في تفسير النسفي : "{ سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَٰتِي } عن فهمها. قال ذو النون قدس الله روحه: أبى الله أن يكرم قلوب الباطلين بمكنون حكمة القرآن"
وجاء في تفسير الطبرسي المجلّد الرابع صفحة 477 قال : "{ سأصرف عن آياتي الذين يتكبَّرون في الأرض } ذكر في معناه وجوه:
أحدها: إنه أراد سأصرف عن نيل الكرامة المتعلقة بآياتي والاعتزاز بها كما يناله المؤمنون في الدنيا والآخرة المستكبرين في الأرض بغير الحق عن أبي علي الجبائي: والآيات على هذا التأويل يحتمل أن تكون سائر الأدلة ويحتمل أن تكون معجزات الأنبياء وفي قولـه { ذلك بأنهم كذَّبوا بآياتنا } بيان أن صرفهم عن الآيات مستحقّ بتكذيبهم.
وثانيها: أن معناه سأصرفهم عن زيادة المعجزات التي أظهرها على الأنبياء (ع) بعد قيام الحجة بما تقدَّم من المعجزات التي ثبتت بها النبوة لأن هذا الضرب من المعجزات إنما يظهر إذا كان في المعلوم أنه يؤمن عنده من لا يؤمن بما تقدَّم من المعجزات فيكون الصرف بأن لا يظهرها جملة أو بأن يصرفهم عن مشاهدتها ويظهرها بحيث ينتفع بها غيرهم وهذا الوجه اختاره القاضي لأن ما بعده يليق به من قولـه { وإن يروا سبيل الرشد } إلى آخر الآية.
وثالثها: أن معناه سأمنع الكذابين والمتكبّرين آياتي ومعجزاتي وأصرفهم عنها وأخصُّ بها الأنبياء فلا أظهرها إلا عليهم وإذا صرفهم عنها فقد صرفهم عنهم .
ورابعها: أن يكون الصرف معناه المنع من إبطال الآيات والحجج والقدح فيها بما يخرجها عن كونها أدلة وحججاً ويكون تقدير الآية إني أصرف المبطلين والمكذّبين عن القدح في دلالاتي بما أؤيّدها وأحكمها من الحجج والبينات.
وخامسها: أن المراد سأصرف عن إبطال آياتي والمنع من تبليغها هؤلاء المتكبرين بالإهلاك أو المنع من غير إهلاك فلا يقدرون على القدح فيها ولا على قهر مبلغيها ولا على منع المؤمنين من اتباعها والإيمان بها وهو نظير قولـه{ والله يعصمك من الناس }[المائدة: 67] ويكون الآيات في هذا الوجه القرآن وما جرى مجراه من كتب الله التي تحملتها الأنبياء عليهم السلام ."
157 – (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ) محمّداً (الأُمِّيَّ) وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ) يعني مكتوبة أوصافه وعلائمه (يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ) من اللحوم (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ) منها (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) أي عهودهم ومواثيقهم التي أخذها عليهم أنبياؤهم السالفة بأن يؤمنوا بالنبيّ محمّد إذا جاءهم وينصروه ويعزّروه .
والعهود التي أخذها عليهم أنبياؤهم قد جاء ذكرها في سورة آل عمران وهي قوله تعالى {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ} إلى قوله {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} يعني وأخذتم على قومكم عهدي بأن يؤمنوا بمحمّد وينصروه . وإنّما قال تعالى {إِصْرِي} ولم يقل عهدي ، يريد بذلك تأكيد العهد الذي لا استثناء فيه ، فكلمة {إِصْرِي} مأخوذة من الإصرار بالشيء والتأكيد عليه بحيث لا يُستثنى عنه ، يقال أصرّ الرجل على طلاق زوجته ، أي صمّم على طلاقها لا يستثني عن ذلك .
فالذين آمنوا بمحمّد من أهل الكتاب ونصروه فقد وفوا بالعهد فسقط عنهم حكمه وزال عنهم عذابه والمؤاخذة به كما يؤاخذ الذين لم يوفوا به ، فهذا معنى قوله تعالى (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) يعني سقط حكم العهد عنهم لأنّهم وفَوا بعهودهم ، وقوله (وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) يعني ويزيل عنهم الأحكام الثقيلة التي كانت عليهم سابقاً وذلك كالصوم عندهم ثلاثاً وعشرين ساعةً في اليوم وتحريم بعض اللحوم والشحوم واعتزال المرأة الحائض أربعة عشر يوماً وقرض الثياب الملطّخة بالدم وغير ذلك من قيود في الأحكام ، فالذين اتّبعوا هذا النبيّ زالت عنهم تلك القيود لأنّ شريعته سمحاء لا يكلّف الإنسان أكثر من طاقته (فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ) أي بهذا النبيّ (وَعَزَّرُوهُ) أي عظّموه ووقّروه (وَنَصَرُوهُ) على أعدائه (وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ) يعني القرآن (مَعَهُ) يعني يتّبعون القرآن مع اتّباعهم لمحمّد ، ولا يجوز أن يتّبعوا القرآن ولا يتّبعوا محمّداً بل يجب اتّباع الإثنين محمّداً والقرآن (أُوْلَـئِكَ) الذين اتّبعوا محمّداً والقرآن (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الفائزون بالجنّة ونعيمها .
وإليك بعض ما ذُكِر في التوراة والإنجيل من صفات النبيّ وعلائمه ، فقد جاء في التوراة في الاصحاح الثامن عشر من التثنية قال الله تعالى [أقيم لهم نبياً من بين إخوتهم مثلك (أي مثل موسى) وألقي كلامي في فيه فيخاطبهم بجميع ما آمره به ، وأيّ إنسان لم يطع كلامي الذي يتكلّم به باسمي فإنّي أحاسبه عليه .]
وجاء أيضاً في الاصحاح السابع عشر من سفر التكوين [وأمّا ابن الأمة فقد باركت عليه جداً جداً وسيلد اثني عشر عظيماً وأؤخّره لأمّةٍ عظيمة ] . فابن الأمة هو إسماعيل ، أمّا الثاني عشر من هؤلاء العظماء فهو محمّد ، والأمّة العظيمة يريد بِها المسلمين .
وأمّا في الإنجيل فقد جاء في النشيد الملائكي في الاصحاح الثاني من إنجيل لوقا (الحمد لله في الأعالي ، وعلى الأرض سلام ، وللناس أحمد) فغيّروا معناها بالتفسير من اللغة السريانية إلى اليونانية ثمّ إلى العربية فكتبوا [الحمد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وللناس المسرّة ] . راجع كتاب (الإنجيل والصليب) صفحة 38 لمؤلّفه القسّ عبد الأحد داوود . أقول أيّ سلام كان على الأرض وأيّة مسرّة حدثت فيها أفي الحرب العالمية الأولى كان السلام أم في الثانية أم في القنابل الذرّية أوالهيدروجينية ، وأيّة مسرّة كانت لهم بذلك ؟
163 – (واَسْأَلْهُمْ) أي واسأل اليهود يا محمّد سؤال توبيخ (عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ) أي على شاطئ البحر وهي قرية إيلة (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) أي يسرعون في صيد الأسماك يوم السبت وكان محرّماً عليهم الصيد فيه (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً) أي طافية فوق الماء كشراع السفن (وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ) وذلك لنختبرهم هل يصيدون السمك أم يمتثلون أوامر ربّهم (كَذَلِكَ نَبْلُوهُم) أي نختبرهم بهذا (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) .
164 – ولَمّا صادوا السمك افترقوا ثلاث فرق ، فرقة صادوا وفرقة نهَوهم عن ذلك وفرقة سكتوا ولم يصيدوا (وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ) أي فرقة منهم ، وهم الذين سكتوا ولم يصيدوا قالوا للذين نهَوا عن الصيد (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ) يعنون من صاد السمك (أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) أي مهلكهم بالطاعون أو معذّبهم في الآخرة إن لم يهلكوا بالطاعون (قَالُواْ) أي قالت الفرقة الناهية (مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ) يعني نهَيناهم عن ذلك ليكون لنا عذرٌ عند ربّكم إذا سألنا عن ذلك يوم القيامة فنقول نهَيناهم فلم ينتهوا (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) يعني ولعلّ الصيّادين يتّقون عقاب الله فينتهون عن صيد السمك يوم السبت إذا نهَيناهم .
165 – (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ) يعني فلَمّا استمرّوا على ذلك حتّى نسوا ما ذُكِّروا به من النهي عن الصيد في أيّام السبت ، سلّطنا عليهم أعداءهم فقهروهم وقتلوهم وأسروهم و (أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ) أنفسهم ، يعني الذين صادوا (بِعَذَابٍ بَئِيسٍ) أي شديد بأيدي أعدائهم (بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ) بين قومهم .
166 – (فَلَمَّا عَتَوْاْ) أي فلمّا ازدادوا في عصيانهم (عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ) من الصيد والبيع والشراء في أيام السبت (قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ) أي مطرودين حقيرين كالقردة . وهذه كناية عن إذلالهم وتحقيرهم وليس معناه مُسِخوا قردة . فكلّ جملة تأتي في القرآن بهذه العبارة هي كناية عن إذلالهم ، وهي (كُونُواْ) ونظيرها قوله تعالى في سورة البقرة {فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} فكلمة {مُوتُواْ} كناية عن ذلّهم ، {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} يعني أعزّهم . وقد سبق تفسير مثل هذه الآية في سورة البقرة وهي قوله تعالى {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} .
167 – (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ) يعني وإذ استأذن أعداؤهم من ربّك في قتالهم فأذن لهم ، كان القدماء يتفاءلون بالسهام فيكتبون على رقعة "إفعل" ويكتبون على الأخرى "لا تفعل" ثمّ يرمونها بسهم فإذا وقع السهم على الأولى يقولون أذن لنا ربّنا في ذلك ، وإذا وقع السهم على الثانية قالوا لم يأذن لنا في ذلك . فأخذ نبوخذنصّر سهماً واستأذن الله في قتال بني إسرائيل ورمى السهم فوقع على الأولى التي مكتوب فيها " إفعل" ، فسار بجيشه وحاربهم وانتصر عليهم . وهذا معنى قوله تعالى (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ) أي سألوه الإذن في قتالهم فأذن لهم . ثمّ أقسم الله تعالى (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ) أي من يعاملهم بأسوأ العذاب (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ) لِمن يريد عقابه فيعاقبه في الدنيا قبل الآخرة (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ) للتائبين من الموحّدين (رَّحِيمٌ) بالمؤمنين .
168 – (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ) أي فرّقناهم ليكونوا ذليلين (أُمَمًا) مختلفة في اللغات منهم فرس وعرب وترك وأكراد وغير ذلك (مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ) في أعمالهم (وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ) أي غير صالحين (وَبَلَوْنَاهُمْ) أي اختبرناهم (بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ) أي بالخير والشرّ (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عن غيّهم وكفرهم .
169 – (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) يعني فذهب الآباء وقام الأبناء مقامهم (وَرِثُواْ الْكِتَابَ) عن آبائهم وأجدادهم ، والكتاب يريد به التوراة ، والمقصود بذلك علماء اليهود (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـذَا الأدْنَى) أي يأخذون المال رشوة في حكمهم للناس فيحكمون باطلاً لأجل المال الذي هو عرض زائل في هذه الدنيا ، يقال في المثل :"الدنيا عرض حاضر يأكل منه البرّ والفاجر" ، (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا) يعني يأخذون الرشوة ويحكمون باطلاً ثمّ يقولون سيغفر الله لنا هذه المرّة ولا نعود نأخذ الرشوة من أحد ، ولكنّهم يكذبون على أنفسهم (وَإِن يَأْتِهِمْ) في الغد (عَرَضٌ مُّثْلُهُ) أي مثل الذي جاءهم بالأمس من المال (يَأْخُذُوهُ) ولا يخشَون عقاب الله (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ) يعني ألم تأخذ أنبياؤهم منهم العهود وتشدّد عليهم المواثيق بأن يتّقوا الله في جميع أوامره ويحكموا بين الناس بالحقّ وتلك العهود والمواثيق مكتوبة عندهم في التوراة وهم يقرأونها على الدوام ، ألم نأخذ عليهم الميثاق (أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ) في الحكم بين الخصمين ، فلماذا يحكمون باطلاً وهم قد قرأوا الكتاب (وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ) من أحكام وقوانين شرعية ، وقليل منهم يتّقون عقاب الله ولا يأخذون الرشوة (وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ) ولا يأخذون الرشوة (أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) يا أحبار اليهود وتتركون الرشوة وتحكمون بالعدل 1 .
-----------------------------------------
1 تكرّر التحذير من أخذ الرشوة نظراً لأهمّيتها وتأكيد سماحة المفسّر لذلك له دلالة كبرى على خطرها ، كيف لا وفيها قال (فخر العروبة) : الراشي والمرتشي والرائش في النار – المراجع
170 – (وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ) يعني يتمسّكون بالتوراة وأحكامها فلا يحكمون باطلاً (وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ) وآتَوا الزكاة وأصلحوا بين المتخاصمين (إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) بل نجزيهم على إصلاحهم خير الجزاء .
172 – (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ) العهود والمواثيق (مِن بَنِي آدَمَ) الماضين (مِن ظُهُورِهِمْ) أي من ظهرانيهم يعني من أسلاف اليهود الذين سبق ذكرهم ، واليهود الموجودون هم (ذُرِّيَّتَهُمْ) أي هم من ذرّية الظهور الماضين (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ) فقال (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ) أي قالت اليهود (بَلَى) أنت ربّنا ، قال الله تعالى أتشهدون أنّي واحد لا شريك لي ؟ قالوا (شَهِدْنَا) قال الله تعالى (أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) يعني أن لا تقولوا يوم القيامة إنّا كنّا غافلين عن التوحيد فلم نعلم أن لا شريك لك ولم يفهمنا أحد فإنّا أفهمناكم وعلّمناكم وأشهدناكم على أنفسكم .
173 – (أَوْ تَقُولُواْ) يوم القيامة (إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ) أي من قبلنا (وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ) يعني وكنّا ذرّيتهم من بعدهم فتعلّمنا الإشراك منهم ، فإنّنا وصّينا آباءكم أن يعلّموكم ويرشدوكم إلى التوحيد وإلى نبذ الأوثان والأصنام وتحطيمها أينما وجِدَت ، فلا تقولوا : (أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) من آبائنا وأجدادنا ؟
والعهود التي أخذتها عليهم أنبياؤهم بأمر من الله وهي أن يعبدوا الله وحده ولا يشرِكوا به شيئاً من المخلوقين والمخلوقات وأن يوصي الآباء أبناءهم بذلك جيلاً بعد جيل لئلاّ ينسوا العهود والمواثيق فيعبدوا غير الله .
وإليك بعض العهود التي أخذها عليهم أنبياؤهم بذلك : فقد جاء في التوراة في سفر التثنية في الاصحاح الخامس قال : [وَدَعَا مُوسَى جَمِيعَ إِسْرَائِيل وَقَال لهُمْ: «اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ الفَرَائِضَ وَالأَحْكَامَ التِي أَتَكَلمُ بِهَا فِي مَسَامِعِكُمُ اليَوْمَ وَتَعَلمُوهَا وَاحْتَرِزُوا لِتَعْمَلُوهَا. اَلرَّبُّ إِلهُنَا قَطَعَ مَعَنَا عَهْداً فِي حُورِيبَ. ليْسَ مَعَ آبَائِنَا قَطَعَ الرَّبُّ هَذَا العَهْدَ بَل مَعَنَا نَحْنُ الذِينَ هُنَا اليَوْمَ جَمِيعُنَا أَحْيَاءٌ. وَجْهاً لِوَجْهٍ .. فَقَال: أَنَا هُوَ الرَّبُّ إِلهُكَ الذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ العُبُودِيَّةِ. لا يَكُنْ لكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي. لا تَصْنَعْ لكَ تِمْثَالاً مَنْحُوتاً صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ أَسْفَلُ وَمَا فِي المَاءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ. لا تَسْجُدْ لهُنَّ وَلا تَعْبُدْهُنَّ لأَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلهُكَ إِلهٌ غَيُورٌ أَفْتَقِدُ ذُنُوبَ الآبَاءِ فِي الأَبْنَاءِ وَفِي الجِيلِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مِنَ الذِينَ يُبْغِضُونَنِي وَأَصْنَعُ إِحْسَاناً إِلى أُلُوفٍ مِنْ مُحِبِّيَّ وَحَافِظِي وَصَايَايَ. لا تَنْطِقْ بِاسْمِ الرَّبِّ إِلهِكَ بَاطِلاً لأَنَّ الرَّبَّ لا يُبْرِئُ مَنْ نَطَقَ بِاسْمِهِ بَاطِلاً. ..أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ كَمَا أَوْصَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ لِتَطُول أَيَّامُكَ وَلِيَكُونَ لكَ خَيْرٌ على الأَرْضِ التِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ. لا تَقْتُل وَلا تَزْنِ وَلا تَسْرِقْ وَلا تَشْهَدْ عَلى قَرِيبِكَ شَهَادَةَ زُورٍ وَلا تَشْتَهِ امْرَأَةَ قَرِيبِكَ وَلا بَيْتَه وَلا حَقْلهُ وَلا عَبْدَهُ وَلا أَمَتَهُ وَلا ثَوْرَهُ وَلا حِمَارَهُ وَلا كُل مَا لِقَرِيبِكَ.]
آراء المفسّرين
لم يفهم المفسّرون تفسير هذه الآية ولم يعلموا مغزاها فظنّوا أنّ كلمة (ظُهُورِهِمْ) معناه أصلابهم ، وكلمة (ذُرِّيَّتَهُمْ) معناها أرواحهم ، وبذلك أخذوا يتخبّطون في تفسير هذه الآية خبط عشواء وإليك بعض تفاسيرهم للآية لتحكم بين الخطأ والصواب .
لقد جاء في تفسير النسفي صحفة 94 من سورة الأعراف قال : " { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ } أي واذكروا إذ أخذ { مِن ظُهُورِهِمْ } بدل من { بَنِى ءادَمَ } والتقدير: وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم { ذُرّيَّتُهُم } ومعنى أخذ ذرياتهم من ظهورهم إخراجهم من أصلاب آبائهم { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَا } هذا من باب التمثيل، ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الهدى والضلالة، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم وقال لهم: ألست بربكم؟ وكأنهم قالوا: بلى أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك"
وجاء في تفسير الجلالين صفحة 141 قال : "{ وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ } بدل اشتمال مما قبله بإِعادة الجار {ذُرِّيّتِهِمْ } بأن أخرج بعضهم من صلب بعض من صلب آدم، نسلاً بعد نسل، كنحو ما يتوالدون كالذر بنعمان يوم عرفة ونصب لهم دلائل على ربوبيته وركب فيهم عقلاً {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } قال { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ } أنت ربنا { شَهِدْنَا } بذلك والإِشهاد لـ { أن } لا { يَقُولُواْ } بالياء والتاء في الموضعين، أي الكفار { يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا } التوحيد { غَٰفِلِينَ } لا نعرفه."
وجاء في تفسير الطبرسي المجلّد الرابع صفحة 497 قال : "{ وإذ أخذ ربك } أي واذكر لهم يا محمد إذ أخرج ربك: { من بني آدم من ظهورهم } أي من ظهور بني آدم: { ذريتهم وأَشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } إختلف العلماء من العام والخاص في معنى هذه الآية وفي هذا الإخراج والإشهاد على وجوه:
أحدها: أن الله تعالى أخرج ذرية آدم من صلبه كهيئة الذر فعرضهم على آدم وقال: إني آخذ على ذريتك ميثاقهم أن يعبدوني ولا يشركوا بي شيئاً وعليَّ أرزاقهم ثم قال لهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أنك ربنا فقال للملائكة: أشهدوا فقالوا شهدنا. وقيل: إن الله تعالى جعلهم فهماء عقلاء يسمعون خطابه ويفهمونه ثم ردَّهم إلى صلب آدم والناس محبوسون بأجمعهم حتى يخرج كل من أخرجه الله في ذلك الوقت وكل من ثبت على الإسلام فهو على الفطرة الأولى ومن كفر وجحد فقد تغير عن الفطرة الأولى عن جماعة من المفسرين ورووا في ذلك آثاراً بعضها مرفوعة وبعضها موقوفة ويجعلونها تأويلاً للآية وردَّ المحققون هذا التأويل وقالوا: إنه مما يشهد ظاهر القرآن بخلافه لأنه تعالى قال {وإذ أخذ ربك من بني آدم} ولم يقل من آدم وقال {من ظهورهم} ولم يقل من ظهره وقال {ذريتهم} ولم يقل ذريته. ثم أخبر تعالى بأنه فعل ذلك لئلا يقولوا إنهم كانوا عن ذلك غافلين أو يعتذروا بشرك آبائهم وأنهم نشؤوا على دينهم وهذا يقتضي أن يكون لهم آباء مشركون فلا يتناول الظاهر ولد آدم لصلبه وأيضاً فإن هذه الذرية المستخرجة من صلب آدم لا يخلو إما إن جعلهم الله عقلاء أو لم يجعلهم كذلك فإن لم يجعلهم عقلاء فلا يصح أن يعرفوا التوحيد وأن يفهموا خطاب الله تعالى وإن جعلهم عقلاء وأخذ عليهم الميثاق فيجب أن يتذكروا ذلك ولا ينسوه لأن أخذ الميثاق لا يكون حجة على المأخوذ عليه إلا أن يكون ذاكراً له فيجب أن نذكر نحن الميثاق ولأنه لا يجوز أن ينسى الجمع الكثير والجم الغفير من العقلاء شيئاً كانوا عرفوه وميَّزوه حتى لا يذكره واحد منهم وإن طال العهد ألا ترى أن أهل الآخرة يعرفون كثيراً من أحوال الدنيا حتى يقول أهل الجنة لأهل النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً.
وثانيها: أن المراد بالآية أن الله سبحانه أخرج بني آدم من أصلاب آبائهم إلى أرحام أمهاتهم ثم رقاهم درجة بعد درجة وعلقة ثم مضغه ثم أنشأ كلاً منهم بشراً سوياً ثم حيّاً مكلفاً وأراهم آثار صنعه ومكَّنهم من معرفة دلائله حتى كأنه أشهدهم وقال لهم ألست بربكم فقالوا بلى هذا يكون معنى أشهدهم على أنفسهم دلَّهم بخلقه على توحيده وإنما أشهدهم على أنفسهم بذلك لما جعل في عقولـهم من الأدلة الدالة على وحدانيته وركب فيهم من عجائب خلقه وغرائب صنعته وفي غيرهم فكأنه سبحانه بمنزلة المشهد لهم على أنفسهم .
وثالثها: أنه تعالى إنما عنى بذلك جماعة من ذرية آدم خلقهم وأكمل عقولـهم وقرَّرهم على ألسن رسله (ع) بمعرفته وبما يجب من طاعته فأقرّوا بذلك وأشهدهم على أنفسهم به لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ." إنتهى .
175 – (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) أي اقرأ على اليهود يا محمّد أخبار الماضين التي هي موجودة في توراتهم لكي يفكّروا ويعتبروا فلا يكونوا مثلهم ، ومن تلك الأنباء (نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا) أي أعطيناه حججنا وبيّناتنا ، وهو بلعام بن بَعور1 وكان رجلاً عالماً عابداً مستجاب الدعوة وكان في زمن موسى (فَانسَلَخَ مِنْهَا) أي فانتُزِعت منه تلك الآيات بسبب رجوعه من الطاعة إلى المعصية (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ) أي لحقه الشيطان حتّى أغواه (فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) بعد أن كان من العابدين المتّقين . فلا تكونوا مثله أيّها اليهود فتغوون الناس وتصدّونهم عن الإيمان بنبيّ يدعو إلى عبادة الله وحده وينهى عن عبادة الأوثان والأصنام .
---------------------------------------------
1 وكان في مدين جليه بالاق من آرام .
176 – (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا) يعني لو نشاء لرفعناه أي بلعام إلى السماء بعد موته ، يعني إلى الجنان بسبب تقواه وعبادته (وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ) أي ركن (إِلَى الأَرْضِ) يعني اختار البقاء في الأرض على الصعود إلى السماء واختار المال الفاني على النعيم الباقي بمعصيته هذه (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) يعني واتّبع هوى نفسه فسوّلت له نفسه أن يدعوَ على بني أسرائيل بالهلاك ، مع أنّهم لم يؤذوه ولم يحملوا عليه بكلام رديء فكذلك أنتم أخذتم في إيذاء محمّد وعاديتموه مع أنّه لم يؤذكم بل صدّق كتابكم وأيّد دينكم (فَمَثَلُهُ) أي فمثل بلعام في ذلك (كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ) أي ينبح (أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث) مثل (ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا) فهم يؤذونك ويسبّونك ويستهزؤون بك وإن كنت لا تتعرّض لهم بأذى وبذلك يهلكون أنفسهم حيث يرمونها في جهنّم (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) في أمر بلعام ولا يكونوا مثله .
وإليك القصّة من التوراة نذكرها باختصار ، فقد جاء في سفر العدد في الاصحاح الثاني والعشرين : لَمّا سار بنو إسرائيل قاصدي الأردن قام بالاق بن صفور ملك موآب وجمع الشيوخ والرؤساء وقال لهم لقد قدم بنو إسرائيل إلى ديارنا وإنّهم لا يبقون لنا طعاماً ولا شراباً لكثرتهم فنموت جوعاً فاذهبوا إلى بلعام وكلّموه وائتوا به فليدعُ على بني إسرائيل ويلعنهم كي ننتصر عليهم ويرجعوا عن بلادنا ، وبعث معهم هدايا له ، فساروا إلى بلعام وكلّموه بذلك وقدّموا له الهدايا فقال لهم باتوا عندي الليلة حتّى أنظر في أمري ، فأوحى الله تعالى إليه في المنام أن لا تفعل ذلك ولا تدعُ على بني إسرائيل ، ولَمّا أصبح الصباح قال لهم لا أذهب معكم لأنّ الله نهاني عن ذلك ، فأخذوا يتوسّلون به ويتضرّعون إليه وقالوا له إمضِ معنا إلى الملك وهناك إن شئت أن تدعوَ وإن شئت ترك الدعاء فالأمر لك .
فذهب معهم على بغلته وفي منتصف الطريق وقفت بغلته عن السير فضربها فلم تسِر وزجرها فلم تزدد إلاّ رسوخاً في الأرض فنزل عنها وأخذ يضربها ضرباً موجِعاً فنطقت بقدرة الله تعالى وقالت إنّ أمامي ملاكاً ينهاني عن السير وأنت تأمرني بذلك ، فتركها وسار معهم حتّى وصلوا إلى الملك بالاق فاستقبله الملك وأكرمه وطلب منه أن يدعوَ على بني إسرائيل ، فقال لا أفعل ذلك لأنّ الله نهاني في المنام عن ذلك ، فقال الملك لعلّها رؤيا كاذبة وأخذ يتوسّل إليه ويقدّم له الأموال والهدايا حتّى أغراه ، فصعدوا فوق الجبل وقدّموا قرابين لله وأخذ بلعام يدعو ، فنطق بالدعاء وباللعن على قوم الملك لأنّه لم يمتلك أمر لسانه ، فصاح الملك وضرب بيديه وقال ماذا تعمل وماذا تفعل ؟ لقد دعوت علينا ولعنتنا ، فقال بلعام : ألم أقل لك أنا لا أقدر أن أعمل شيئاً بإرادتي فإنّ الله تعالى أخذ السلطة منّي على لساني فصار ينطق بغير إرادتي ، فقال الملك وماذا نعمل الآن ؟ فقال بلعام لنذهب إلى الجبل الثاني ونقدّم قرابين لله وأدعو مرّة ثانية ، ففعل ولكنّه لم ينجح أيضاً بل أخذ لسانه يلعن قوم الملك ويدعو عليهم ، ويمدح بني إسرائيل ويباركهم فصاح الملك ومزّق ثيابه ولطم وجهه وقال ماذا صنعت لقد أهلكتنا ولعنتنا . فقال بلعام لنذهب إلى جبل ثالث ، فذهبوا ودعا على قوم الملك أيضاً .
فلمّا رأى بلعام أنّ خطّته هذه لم تنجح فكّر في خطّة أخرى وقال للملك بالاق : إجمعوا كلّ امرأة حسناء منكم وليأخذن معهنّ أطباقاً من الفواكه ويذهبن إلى بني إسرائيل ويبعن عليهم الفواكه فإذا أراد أحدهم أن يجامع إحداهنّ فلا تمتنع عن ذلك فإذا زنى أحدهم فإنّ الله تعالى سينزل عليهم الطاعون فيهلكهم . ففعلوا ذلك ونجحت خطّتهم ، وهذا معنى قوله تعالى (فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) يعني بعد ما كان تقياً ينهى عن الفحشاء أصبح عاصياً غاوياً يأمر بالفحشاء .
187 – إجتمع نفر من اليهود وقالوا لنذهب إلى محمّد ونسأله عن القيامة فإن أجابنا عنها وحدَد لها وقتاً فإنّه كاذب وليس بنبيّ لأنّ الله لم يخبر بِها أحداً من الأنبياء ولم يحدّد وقتها في كتاب ، أمّا إذا لم يُجِبنا عليها وقال لا علم لي بوقت حدوثها فإنّه نبيّ صادق ، ثمّ دخلوا على النبيّ وسألوه ، فنزلت هذه الآية (يَسْأَلُونَكَ) يا محمّد (عَنِ السَّاعَةِ) أي عن الساعة التي تقوم فيها القيامة (أَيَّانَ مُرْسَاهَا) يعني في أيّ وقت يكون حدوثها ، وكان سؤالهم مبهماً في علم الله تعالى فهل أرادوا بذلك الساعة التي يموتون فيها أم الساعة التي يبعثون فيها أم ساعة ابتداء تلك الحوادث التي تقوم بسببها القيامة ، فأخبر سبحانه عن ابتداء حدوثها للأرض التي نحن عليها وهو قوله تعالى (أَيَّانَ مُرْسَاهَا) يعني أيّ وقت تقف الأرض عن دورتها المحورية وتستقرّ عن حركتها الدائمية ، فالأرساء معناه الوقوف والسكون والثبات ، يقال رست السفينة على الشاطئ أي وقفت وسكنت ، ومن ذلك قوله تعالى في سورة النازعات {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} أي أثبتها على الأرض (قُلْ) يا محمّد في جوابهم (إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي) ولا علم لي بذلك (لاَ يُجَلِّيهَا) أي لا يكشف حقيقتها وينجلي غطاؤها (لِوَقْتِهَا) يعني فيكشف عن وقتها متى يكون ومتى تقوم (إِلاَّ هُوَ) فإنّ الله تعالى يجلّي أمرها للناس في ذلك الزمان ويبيّن أسرارها ويعدّد لهم علائمها على لسان المهدي المنتظر (ثَقُلَتْ) أي ثقل أمرها على الناس وعظم شأنها لأنّ الله تعالى يتوعّدهم بِها ويخوّفهم بقيامها فمنهم مكذّب بها ومنهم خائف منها والكلّ لا يعلمون حقيقتها لأنّ الله تعالى أخفاها ليختبرهم ويرى أعمالهم لكي يجازيهم عليها بما يستحقّونه ، فقد قال الله تعالى مخاطباً موسى في سورة طه : {إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} . وقوله (فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) أي ثقل أمرها على أهل الكواكب السيّارة وأهل الأرض (لاَ تَأْتِيكُمْ) علائمها (إِلاَّ بَغْتَةً) يعني إلاّ فجأةً .
فحينئذٍ أخذ اليهود ينظر بعضهم إلى بعض نظر استجواب فقال بعضهم لقد استقصى أمرها وتتبّع أثرها في الكتب السماوية فعرف ذلك فقالوا كأنّك حفِيٌّ عنها يا محمّد ، فنزلت (يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا) أي كأنّك استقصيت أمرها وتتبّعت أثرها حتّى عرفت ذلك ، وذلك من قولهم "حفّ الرجل شاربه" إذا أزال الشعر من أسفله ، وحفّت المرأة وجهها ، أي تتبّعت آثار الشعر فاقتلعته (قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ) وهو الذي أخبرني بذلك ولست مِمّن درس الكتب ولا مِمّن تتبّع الآثار (وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) يجهلون الحقّ و (لاَ يَعْلَمُونَ) الحقيقة .
وقد بيّنت في كتابي (الكون والقرآن) عن الساعة وعن حدوثها وفصّلت علائمها وما يجري فيها من حوادث فراجعه إن شئت زيادة إيضاح .
189 – (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) إنّه يرجع إلى النفس وزوجها من ولد آدم لا إلى آدم وحوّاء . والمعنى خلق كلّ واحدٍ منكم من نفس واحدة ولكلّ نفس زوج هو منها أي من جنسها كما قال سبحانه في سورة الروم {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} ، (فَلَمَّا تَغَشَّاهَا) أي فلمّا وطأ كلّ إنسان زوجته ، ثمّ خصّ بالذكر أحد رؤساء قريش طلب من الله الولد فلمّا أعطاه الولد سمّاه عبد العزّى وأشرك في تسميته بأن جعله عبداً للصنم ، وذلك قوله تعالى (فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا) من الخفّة بمعنى تقوم وتقعد وتجيء وتذهب (فَمَرَّتْ بِهِ) أي استمرّت بالحمل على الخفة بضعة أشهر ، (فَلَمَّا أَثْقَلَت) بالحمل واقترب وضع الحمل (دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا) فقالا (لَئِنْ آتَيْتَنَا) ولداً (صَالِحاً) أي معافى ليس به عاهة (لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لك .
190 – (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً) أي ولداً صالحاً معافى (جَعَلاَ لَهُ) أي لله (شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا) أي في الولد الذي أعطاهما فبدلاً من تسميته عبد الله أسمياه عبد العزّى ، والعزّى صنم من الأصنام فقلّده قومه في ذلك فصاروا يسمّون أولادهم عبد اللات وعبد العزّى وعبد مناة (فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) قريش من قيامهم بهذا التقليد السيّء .
191 – ثمّ قال تعالى (أَيُشْرِكُونَ) معه (مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً) من المادّة ، والمعنى أيشركون معه الأرواح التي لم تخلق شيئاً من المخلوقات الموجودة على الأرض بل كلّ ما في الوجود هو من مخلوقات الله وصنعه (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) يعني وهم مخلوقون ، والمعنى أيشركون معه ملوكهم ورؤساءهم الأموات فصنعوا لهم تماثيل وعبدوها من دون الله . وإنّما قال تعالى (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) على صيغة المضارع يعني رؤساءهم الأموات يُخلَقون يوم القيامة لأنّ الله تعالى يخلق لهم جلوداً أثيرية ويلقيهم في النار ، وذلك قوله تعالى في سورة النساء {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ} .
192 – (وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ) يعني ملوكهم الأموات لا يستطيعون للمشركين (نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ) فينجون من العذاب .
201 – (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ) أي أصابهم (طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ) أي قسم من إغواء الشيطان ، فالطائف مذكّر والطائفة مؤنّث (تَذَكَّرُواْ) وعيد الله وعقابه فتركوا المعصية وندموا على ذلك (فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) للرشد .
202 – (وَإِخْوَانُهُمْ) يعني إخوان الشياطين في الكفر والتكبّر ويريد بهم المشركين (يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ) يعني الشياطين يزيدون في إغواء الكافرين (ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ) في الزيادة من الإغواء .
203 – (وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم) يا محمّد (بِآيَةٍ) أي بمعجزة كما اقترحوا عليك (قَالُواْ) أي قال الكافرون (لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا) من الله ، يعني قالوا لك لولا طلبتها من الله واخترتها فيعطيك إن كنت نبيّاً (قُلْ) يا محمّد لهم (إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي) وليس لي الاختيار في ذلك (هَـذَا) القرآن معجزتي فهو معجزة علمية وهو (بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ) لمن أراد أن يبصر الحقّ (وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بربّهم وبرسله .
206 – (إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ) يعني عنده في السماوات الأثيرية وهم الملائكة (لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ) مع علوّ شأنهم (وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) أي ينقادون لأوامره ولا يعصونه ولكنّكم تأنفون من السجود له وتعصون أوامره مع أنّكم خُلِقتم من ماء حقير وطين مسنون .
تمّ بعون الله تفسير سورة الأعراف ويليها تفسير سورة الأنفال
في 20 رمضان سنة 1383 هجرية المصادف 3/2/1964 ميلادية